في نطاقها الأوسع[1]، تمتد الحركة الإسلامية لتشمل الأمة بأسرها. بينما تتمثَّل أضيق هذه النطاقات الحركية في شطر الأمةِ الأكثر سعًيا نحو الهدف النهائي[2] وقبل نحو عامٍ تقريبًا[3]، كان من الصعب تحديد مجموعة ريادية واحدة داخل الحركة الإسلامية، رغم أن عددًا من المجموعات المنظَّمة قد بسطت دعواها بأنها طليعة هذه الحركة، وهي حركات وأحزاب مثل جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، وجماعت إسلامي[4] في باكستان، كذا ادعت بعض الدول القومية التي يقطُنها مسلمون أنها «إسلامية».
يقرأ اﻵلاف حول العالم تاريخهم، أو بعضه على الأقل؛ يوميًا. لكنَّها قراءة ميّتة لا حياة فيها، برغم هالة القداسة التي قد تُضفى على هذا التاريخ، وعلى شخوصه. إنها قراءة ميّتة لأنها لا تتلمس حقيقة العبرة من التجربة الإنسانية، فهي إما تُضفى على المسار التاريخي قداسة تسعى للذوبان فيها هربًا من الواقع، أو تلعن دنسه وتكرِّس القطيعة معه تاركة فجوة عميقة في الوعي والهويّة. فجوة عميقة لا يُمكن تجسيرها بغير صدق إخلاص الوجه وتمام الصدق مع النفس.
ترتبط صيرورة التربية ونهجها، في الحركة الإسلامية؛ باستقامة القيادة الاجتماعيّة على ذات النهج ودوام مُكابدتها له. إذ التربية هي الوظيفة الأهم للقيادة الاجتماعيّة، وهي النموذج النبوي في الدعوة إلى الله؛ النموذج الذي تُخالط فيه القدوة المتوهِّجة بالقيم القرآنية قدرًا يسيرًا من التوجيه المباشر، حتى يستقيم المربَّى على مراد ربّه ويُسلم له سبحانه، فيحمل همّ غيره بحُسن حمله لهمّ نفسه. وأعظم محنة قد تواجهها الحركة الإسلامية، أو أيًا من طلائعها؛ هي سقوط القدوة، على غرار ما وقع في مصر بشكلٍ فاضحٍ بعد 25 يناير 2011؛ إذ سقط جيلٌ كامل من العلماء والدعاة والمعلّمين والكُتّاب والسياسين والشخصيات العامة.
إن حمل النفس على الحقّ لتعويدها إياه، حتى يتجسّد فيها بعضه لمن لم يعرفه؛ هي أشقّ مهمّة قد يضطلع بها مخلوق: الدعوة إلى الله بالنفس، ومنها أشفقت السماوات والأرض والجبال. فإما هُدي بك خلقٌ من الناس، أو فُتنوا والعياذ بالله. والفارق بين إكراه غيرك على أمرٍ وتربيته عليه فارقٌ في النيّةِ أصلًا. فالإكراه السلوكي نموذجٌ تدريبي براني شركيّ، قصير المدى سطحي المفعول؛ لا يلزمه إيمانُ المتدرِّبِ بشيء. بعكس التربية الإيمانيّة الجوانيّة، طويلة المدى عميقة المفعول؛ التي تتشرَّب بها النفس قيمًا تنعكس تلقائيًا على الجوارح وتسري بهدوءٍ، وبغير تكلُّفٍ؛ في الاجتماع الإنساني. ولا يصدُر الإكراه إلا عن نيّةٍ مدخولةٍ وفهمٍ سقيمٍ؛ فالنفسُ فيه لا تتحمَّل تبِعَة أفعالها، بقدر ما تنشغل غالبًا بإرهاب المتدرِّب/المواطن/القاصر الخاضع لولايتها. ولو انشغل المربِّي مُخلصًا بنفسه، بنيّة تربية غيره؛ لسدّده اللطيف الخبير.
الفصل بين النظر والعمل، بالأصل؛ فصلٌ مدرسيٌّ إجرائيّ. لكنّهُ سمتٌ ملازم لكل الأنساق المعرفيّة الوضعيّة؛ سواء تلك التي انبنت أول أمرها على الوحي الإلهي، أو تلك التي طوَّرها الجدل المادّي بتغييب الوحي. ولزوم هذه الخاصيّة للأنساق المعرفيّة الوضعيّة سببه ليس المكوّن البشريّ مُجرّدًا، بل هيمنة المكوِّن الجدلي حتى على الأنساق ذات الأصل التوحيدي، بتطاول الأمد وتزايُد تشقيق المقولات الجدليّة-المذهبيّة من قلب مقولاتٍ بشرية. لكن العامل الأهم في بروز هذه الإمكانيّة وتفاقُم نتائجها هو صدور التصوّرات الوضعية كافة عن أُطرٍ نظريّة افتراضيّة مجرّدة؛
ن الانتصار في معركة قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء، فحين لا تتوفَّر العوامل الحقيقية للنصر؛ يُصبح أي نصرٍ مرحلي عملية تضليل، واستمرار للسير الخطأ، وتماديًا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية. هكذا سار التاريخ في مراحلَ كثيرةٍ من تطوراته؛ كان النصر بداية الهزيمة، وكانت الهزيمة بداية النصر … والتاريخ في دورانه غريب، وهو يُعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل؛ المرتكِزَة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس، ولها انسجامها مع حركة الكون، ولها صلاحياتها في البقاء، والانتشار، والخلود”. – عبدالحليم عويس؛ دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، دار المختار الإسلامي، 1978.
ويبدو عجز مجتمع ما عن الثورة وعن بلورة حركته الإحيائية عجزًا عن التديّن الحقيقي، والعكس بالعكس، كما يذهب بيغوفيتش؛ ولو تفشَّت مظاهر التديُّن القشريّة وخطابه العُصابي. ذلك أن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاضٍ من الألم والمعاناة الفرديّة والاجتماعيّة، ويحتضران في منازِل الرخاء والرفاهية والترف. أو بعبارةٍ أخرى: يولدان في غمار الحركة/الثورة، ويحتضران في كنف النظام المستقِرّ. إذ تدوم حياة الدين والثورة في الواقع بدوام النضال والجهاد (وهو ما لا يدوم للأبد في دار الابتلاء)، حتى إذا تحقق القدر الموسوم من قيمهما التي تبنّتها الحركة في الواقع؛
حين قبض الله سجّان مصر الأول؛ كان في ذلك ما يُشبه الإيذان بانتقال الحركة الإسلامية لمرحلة جديدة. بدأها السادات بتكتيك مختلف عن سلفه، وإن كان الهدف واحدًا: ترويض الجماعة/الحركة بدمجها في النظام السياسي ما بعد الكولونيالي، ومن ثم توظيفها سياسيًا واقتصاديًا لتحقيق التحوّل الرأسمالي المنشود. فأطلق سراح آلاف المعتقلين، وأعيد الاعتبار لكثير منهم، بل سُمحَ للإخوان بالعمل السياسي-الدعائي العلني، بشكل غير رسميّ؛ يحفظ خط الرجعة على النظام المتربّص، ويسمح له بالتنكيل بالتنظيم “الإرهابي” “المنحل” و”غير القانوني”، حين يستنفذ أغراض وجوده.
توقّفنا في الحلقة الأولى عند أثر الطابع المهني للبنّا والهضيبي الأب والتلمساني في تشكيل بنية وسلوك الجماعة. لكن كل جماعة/حركة من الجماعات الإخوانيّة الثلاث لم تصطبغ بصبغة مرشدها فحسب؛ بل عكست طبيعة الحقبة السياسيّة، وطبيعة العلاقة مع النظام الحاكم. ومن هذا المنظور يُمكننا مثلًا فهم بعض أسباب لياذ الهضيبي وجماعته بالدعوة، ونبذهم للعمل السياسي المباشر. فقد وصمت سياسات الحقبة الناصرية بإثنينية صلبة: إما الخضوع الكامل أو الاستئصال التام. وظهرت رغبة عبد الناصر في إبادة الحركة، التي ارتأى فيها مُنافسًا سياسيًا؛ قويّة واضحة، إن لم يتحقق تدجينها. فقد رفضت الجماعة دمجها في هيئة التحرير، كما في سائر البنى السياسيّة التي اختلقها.
“إن فكرة الإخوان المسلمين، نتيجة الفهم العام الشامل للإسلام؛ قد شملت كل نواحي الإصلاح في الأمة: فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”. – حسن البنا؛ رسالة المؤتمر الخامس.
وإذا كان مكدونالد يفتتح فروعًا خاصّة بالمترفين في أماكن تجمعهم، وقد لا توجد على لائحة فروعه العلنية، فإن الفروع العلنية نفسها تخضع الجودة فيها لتدرّج هرمي حسب الشرائح والطبقات المخاطبة وأماكن وجود هذه الفروع. لكن المنتج المصري المقلّد للنمط لا يمكنه بناء مثل هذه الازدواجية في معايير الجودة لسببين: أولهما أنه ليس بماركة عالمية ذات ألق يحفظ عليها الطلب مهما انحدرت القاعدة الطبقية المستهلكة لمنتجاتها، وثانيهما ينبني على الأول؛ ذلك أنه يعيد تشكيل هويّته كل فترة، ليس بناء على معايير صارمة مفروضة من أصحاب العلامة التجارية في الخارج؛ ولكن استنادًا للواقع وللصورة الذهنيّة التي شكّلها المجتمع عنه. لهذا تنطفيء الماركات المحلّية بأسرع مما تنطفيء الماركات العابرة للقارات، وربما كان الأمل الوحيد للمنتج المحلي في إعادة إنتاج هويّة تجاريّة أكثر قوة واستقرارًا؛
أسهبنا في القسم الأول في تتبُّع الخلفية التاريخية للمصطلح واشتقاقاته، وفي هذا القسم نتتبع أثره، وأسباب استخدامه، لتكتمل الأطروحة. لقد عبَّر استخدام لفظة “إسلامي” ليس عن طاريء لغوي فحسب، ولا عن مُجرَّد أدلجة جعلت من الإسلام أداة لمحاربة المذاهب البشرية ومنافستها على أرضيّتها الوضعيّة؛ بل عبَّر عن تغيُّرٍ أعمق اعترى الحركة الإسلاميّة في التصوّر والاعتقاد. ما يُمكن تسميته ب”الأثر السلفي” أو “الأثر السعودي”. وعلى عكس ما يتوهَّم العلمانيون والمراقبون والباحثون الغربيون؛ فقد كان جوهر ذلك الأثر تشوُّهًا في الرؤية وتسطيحًا للتصوّر الإسلامي للجيل الذي عاش في السعودية وأكشاك الخليج، وتاجر فيها ومعها؛ إذ تم دمجه بهديه الظاهر في منظومة الاقتصاد الرأسمالي، ولو على يسار تلك المنظومة؛
طالب مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، في بيان صحفي أصدره شهر يناير 2013؛ وسائل الإعلام الأمريكية بالتوقُّف عن استخدام مصطلح “الإسلاميين Islamists”،مُشيرًا إلى أنه يُستخدم في سياق الازدراء والتحقير مقرونين بالتطرُّف؛ مما يُضفي ظلالًا شديدة السلبيّة على المدلول. وقال المجلس أن الربط بين اصطلاح “الإسلاميين” ومظاهر التشدُد والعنف وحرمان اﻵخر من الحقوق الدينية والمدنيّة؛ هي رؤية يُروّج لها المعادون للإسلام. ودعا المجلس الإعلام للاقتداء بوكالة أسوشيتد برس الأمريكية؛ التي عرّفت “الإسلاميين”، عام 2012؛ بأنهم “من يؤيدون الحكم وفقًا للقوانين الإسلامية”. ورأى البيان أن استخدام المصطلح دون تعريف واضح يعني إصدار أحكام دينية وسياسيّة نهائيّة بحق الموصوف في كل مرة يتم استخدامه.
لعل المأزق الأكبر الذي يواجه الحركات الإسلامية اليوم (وفي كل وقتٍ تنحدر فيه للتحزُّب) هو الرغبة في بديلٍ جاهز يستفرغ الجهد التنظيمي؛ بغض النظر عن مآل ذلك الجهد، أو طبيعة توظيفه، أو حتى المصرف الذي سينحدر إليه. وبناءً على تفرقتنا بين الحركة الإسلامية والحركات الإسلاميّة، باعتبار الأولى هي المجتمعات التي أسلمت وجهها لله والثانية هي التنظيمات والأحزاب المتقوقعة على هامشها؛ فوحدها الحركات/التنظيمات الحزبيّة الهرميّة قد تُعاني ذلك المأزق بعد انسداد أفق الممارسة السياسية. وتتفاقم الأزمة في حالات البنى صاحبة القواعد التنظيمية الكبيرة،